mardi 21 janvier 2014

فصل من رواية :دخان القصر لامال مختار

28 mars 2013, 02:32

استراحة القلق

يقيم فيّ القلق منذ ولدت ، منذ وعيت ، أحمله على عاتقي وزرا ثقيلا  ولا يحملني . أخطفه منّي وألقيه فلا يعتقني .يسكنّني كشيطان يفجّر فيّ أسئلته ويمضي تاركا عقلي يدور كخذروف طفل في بطحاءالحياة.
القلق، القلق، القلق ...يتبعني كظلي ،يسكن في قلبي كعشيق ، يقيم في أحشائي كطفلي .نغّص عليّ بهجة الحياة .أفسد عليّ متعها .حرمني طفولتي . وخنق مراهقتي وخطف منّي أمومتي .هو عدوي اللّدود .لو أقدرعليه فأمسك به بين كفيّ ...لو أستطيع محوه من وجودي .لو ...لو لكن لا فائدة من افتراضاتي .لقد بات وجوده حقيقة في حياتي ولا خلاص ...وهذه الثورة التي اشتبهت عليّ .هل حدثت فعلا ثمّ فشلت فألهبت القلق في شراييني ليشتعل دمي غضبا ؟ هل كانت مجرّد  أضغاث أحلام وكابوس يقظة جنيتُ منها مزيدا من القلق الذي بات يمتد وينو ويثمر حنظلا كالنبتات الشيطانية ؟
ولا مفرّ...
هذه حقيقة ثابتة لا جدال فيها : لا مفرّ...
أينما ذهبت سأحمل قلقي معي .أينما أوليت وجهي أراه .كلّما أغلقت عينا تبدى لي وكلّما فتّحت عينا رقص أمامي متصاعدا كالدخان ...لا بل هو الدخان نفسه الذي بتّ أراه يخرج من كلّ الثقوب...من كلّ الشقوق ...من تحت الأبواب ، من بين الجدران ، من الأعين ، من الأنوف ،من الأفواه...
الدخان الأسود يخرج من كل مكان يسعى كالأفاعي و ينتشر ليغطي كامل المدينة ...
يركض الناس في الشوارع في حيرة يبحثون عن مصدر الدخان الأسود الذي يغطي المدينة برداء من الرماد الأسود ...
 هذا حريق في المدينة .من أيّ اتجاه يأتي الدخان ؟ يركض الجميع في جلبة .الكلّ يسأل ولا أحد يدري ماذا يحدث ...هل هو حريق ؟ إن كان ذلك صحيحا فأين مكانه ؟
الفوضى تتصارع مع الدخان والناس يتعثرون هنا يسّاقطون هناك .ينهض البعض .تدوس الأقدام اللاهثة البعض الآخر .فجأة اتجه الجميع صوب البحر كسرب النحل .كأنّما أحدهم دلّهم على مصدر الدخان أم لعلّهم قصدوا البحر للاحتماء من الحريق .
ما الذي يحدث بالضبط ؟؟؟
لا أحد يعلم الحقيقة . للحقيقة ألف وجه .
الكلّ يهذي .الكلّ يعتقد أنّه يملك الحقيقة .الكلّ يتوهم أنّه على صواب والخطأ هو الآخر . الكلّ يركض لإنقاذ نفسه فقط . الكل يعتقد أنّه يعرف والجهل هو الآخر. الكلّ في متاهة يدور في فضاءات منفتحة على بعضها البعض غير أنّه لا مخرج لها .
كالفئران في المصيدة يتخبّطون ولا مفرّ.
بعد عناء وصلت المجموعة المحاصرة إلى البحر .وبعد ...؟؟؟ لا شيء :هذا البحر أمامكم وهذا الدخان وراءكم ...
وقفت على الربوة حيث آثار مدينة قرطاج العظيمة ورحت أتطلع للوجوه أتفحصها لعلّني أتعرّف على أحدها ...وجوه و وجوه و وجوه غائمة ، بلا ملامح وسط الدخان الذي ارتفعت كثافته هنا في قرطاج...كانت الأصوات متشابكة في الفضاء المدخّن كالهمهمات .كالأنين ، كالاستغاثات ثمّ توضح لي بعض الكلام الذي وصلني متناثرا كالدمغات : "الدخان يتعالى كثيفا من القصر ..." ، إنّهم يحرقون القصر..." ، "القصر يحترق ..." من الذين يحرقون..." .
قفزت من الربوة وآنصهرت في المجموعة يدفعني هذا ويركلني ذاك كأنّما نحن في يوم الحشر .بعد لأي بلغتُ بوابة القصر .الناس يتدافعون .كيف سأقدر على الدخول ؟
يجب عليّ أن أدخل . يجب عليّ أن أعرف . يجب عليّ أن أخبر الناس بحقيقة ما يحدث في الداخل .
بعد بوابة القصر خفّ الزحام . تعجبت . ولمّا رأيت بصعوبة من بين ثنايا الدخان رجالا تبيّن لي أنّهم  بعض من رجال الأمن الذين يرابطون أمام البوابات الرئيسية للقصر تفهّمت الأمر ...اقتربت من أحد البوابات فاستوقفوني . قلت لهم يجب عليّ أن أدخل .ذلك هو واجبي ودوري . تبادلوا النظرات في صمت ثمّ أخذني أحدهم إلى غرفة صغيرة عند البوابة الكبيرة .كانت كأنّها غرفة تمريض .كان هناك طبيب وممرضة ورجل آخر في زى تونسي تقليدي حاولت تبين ملامحه من خلال الدخان فبدا لي كأنّه الشيخ الفاضل بن عاشور .كان يجلس إلى مكتب وأمامه سجلات . أشار لي الطبيب بالجلوس على الكرسي أمامه. فعلت .رفع كمّ جاكتي وسحب من شريان يدي قطرات من دمي .أخذت الممرّضة الوعاء البلوري الصغير ووضعته في جهاز الكتروني غريب الشكل .انتظرت لحظة زمنيّة ثمّ قرأت ما كتب في أعلى الجهاز بضوء أخضر : "تونسيّة " .
أشارت لي الممرضة  بأسلوبها الآلي بالتوجه إلى الشيخ بن عاشور . أفهمني هذا الأخير بأنّه يتوجّب عليّ أن أكتب اسمي وأُمضي .أنجزت فسمح لي بالانصراف .
عند باب الغرفة وجدت رجلا بزي قرطاجني رافقني إلى قاعة القصر الكبرى . تبعته وأنا أحاول أن أتبيّن الوجوه وحركة الغدو والرواح من خلال أعمدة الدخان القادمة بكثافة من القاعة التي نتوجه نحوها ...
ارتفعت كثافة الدخان عند باب القاعة التي بدت لي فسيحة . تلاشى الرجل القرطاجني الذي رافقني بينما بدأت أنتبه إلى تحسن مستوى الرؤية داخل القاعة .بل إني رأيت ما لم أحلم برؤيته قط ّ : نساء ورجال بأزياء مختلفة تمثل حقبات تاريخية مختلفة عاشتها تونس منذ انطلاق الحياة على أرضها .
كان كل واحد منهم منهمك يحاول اطفاء كتاب شدت فيه النار .كأنّما القاعة بمثابة مكتبة فسيحة مزدحمة بالكتب وقد شبّ فيها حريق حائل تصاعدت منه الأدخنة سوداء .كان عدد رجال المطافي بزيهم المتعارف عليه في تونس كبير وكبير أما الذين كانوا يرتدون الملابس المدنية فقد تبينت أنّهم من الشخصيات الخالدة في تاريخ تونس .
رأيت عبد الرحمان ابن خلدون ببرنسه يطفئ حريق مقدّمته وهو يهزّ رأسه  أسفا ، سحبت من بين يديه جزءا ممّا أنقذه من إحدى الصفحات وقرأت :"  المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه و نحلته و سائر أحواله و عوائده والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إما لنظره بالكمال .
 هناك تقف عليسة بجمالها الأخاذ وزيّها القرطاجني الفاتن وتاج ورق الغار على رأسها  تطفئ الكتب التي ألّفها المسرحيون والشعراء في عهدها وهي تقول بأغلى صوتها :" يا أبناء قرطاج ، يا أبناء تونس إياكم والنار ،انّها خدّاعة لا ترحم .أنا لم أكن أنوي الموت كما قالت لكم كتب التاريخ ، أنا حاولت أن أهدّد ملك البربر غير أن النّار كانت أسرع إليّ من النجدة .أنا جدتكم أتوسّل إليكم أن تنقطعوا عن اللعب بالنار ..."
في الجهة المقابلة جلس الطاهر الحداد بجبته الرمادية يرشّ رذاذ الماء على كتابه :"امرأتنا في الشريعة والمجتمع ".جلستُ إلى جانبه وقلت :"لا تنزعج حتى لو أحرق كتابك فتأكد أنّ كل صفحاته منقوشة في ذاكرة كل أنثى تونسية ولدت وستولد ".ابتسم بصمت الأموات وعاد يلملم أوراق كتابه .
في الطرف الآخر من المكتبة وقف خير الدين باشا في شموخ  واضعا كتابه :" أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك " في قطعة كبيرة من الخيش لإطفاء ألسنة النار التي التهمت بعض أوراقه .نظر إليّ في ثقة كأنّما يعرف أنّه لا غنى عن أفكاره وإصلاحاته التي دونها في هذا العمل الجبار أثناء فترة استقالته من الدولة احتجاجا على الفساد الذي انتشر فيها ...
محمد علي الحامي بقامته الطويلة إلى جانب الشهيد فرحات حشاد منغمسان في اطفاء كتب النقابات والعمال وهما يرددان :"نحبّك يا شعب فلا تخذل أحلامنا. "
الكاهنة البربرية الشامخة نركض بين هذا الجناح وذاك وترش رذاذ الماء صارخة : لا تحرقوا ...لا تحرقوا أرض تونس وخضرة تونس  وكتبها ، لا ترتكبوا نفس خطئي ...النار عدوّة فلا تقربوها ..."
شاهرا سيفه وقف علي بن غذاهم  الثائر التونسي ابن القصرين يقود أحل قبيلته لإخماد نار حريق الضرائب التي ألهبت كاهل التونسي المسكين ...
المنصف باي الذي لا يستطيع التخلّف على شعبه للمساعدة على اطفاء حريق المكتبة /الحضارة التونسية ، كان بزيه الملوكي مثله مثل كل رجل تجري في عروقه دماء تونسي يأتي كل ما في وسعه لإخماد الحريق قائلا بأعلى صوته :" أنا متأكد أنّ هناك أياد أجنبية في اشعال فتيل هذا الحريق..."
كانت قاعة المكتبة تعجّ بالوجوه التي صنعت وطبعت تاريخ تونس ببصماتها .خرجوا رجالا ونساء من الموت ، من الصمت ، من القبور ، من الكتب ، من الذاكرة واندفعوا لإنقاذ حضارة بلدهم من الحريق .
رأيت وجوها كثيرة من وطنيين اشتهروا بعطائهم لبلدهم في جميع  الميادين .في الكفاح ، في الثورة ، في العلم ،في الفقه ، في الفن ،في الأدب ، في الصحافة ...
من الوجوه التي أتذكرها من زحام المشاهير إطفائي حريق مكتبة القصر:الشاعر ابة القاسم الشابي ، المطربة طليحة ، سيّدة العطاء عزيزة عثمانة ، الثائر محمد الدغباجي ، الشهيد صالح بن يوسف ، المناضلة لأجل حقوق المرأة بشيرة بن مراد ، الفنان عي الرياحي ،الإذاعي صالح جغام ، الصحفي محمد قلبي ، أسماء ووجوه هبّت لنصرة الوطن .
غادرت وقد خمدت النيران وانخفضت كثافة الدخان وأصلحت الكتب وبدأت المكتبة تستعيد هيبتها  ،كنت في حالة من الانتشاء الذي لم أجرّبه قط غير أنّ ذلك لم يمنعني من البحث عن وجه كنت أعتقد أنّه سيكون الأوّل في هذا المكان .رحت أدور وأتطلع في الوجوه المنهمكة في عملها لكني لم أعثر عليه ، اشتد عجبي ، أيعقل ذلك .واصلت البحث دون يأس، في ممرّ قريب من المكتبة سمعت امرأة تقول :
-        لا تذهب أرجوك .سيقتلونك ،أنت لم تساهم في هذه المكتبة ، ما دخلك أنت في حريقها .اسمع نصيحتي ...
-        نصيحتك هي التي دمرتني وحرمتني من المساهمة في مكتبة بلادي .سأساعدهم في الانقاذ على الأقل ...اغربي عن وجهي لقد شوهتي تاريخي ..
-        تتكلّم كأنك الملاك ، وتتهمني . تاريخك مشوّه منذ بدايته ...
فهمت من الحوار أن بن علي جاء من منفاه خلسة لينتهز الفرصة مع الأموات ويقدّم ما قد يجعل التونسيين يغفرون له ،وها هي زوجته ليلى تمنعه من فرصته الأخيرة ...
ابتعدت عنهم وواصلت البحث في الجهة المقابلة من القاعة الفسيحة التي بدت لي كأنّما هي كل مساحة القصر .فجأة بلغني صوته ، صوته أنا أستطيع أن أتعرّف عليه من خلال أدقّ التفاصيل في شخصيته فقد كبرت بين يديه .سمعته يقول :
-        بناتي أبنائي ، أيّها السغب التونسي الأبي لا تخافوا ولا ترتعبوا ، مهما كانت أسباب هذا الحريق فتأكدوا أنّكم لمنتصرون ، "فهمت التحصل معناه" أنا كنت أعلم أنّ هذا سيحدث بعدي لذلك حصنتكم بالتعليم ، لذلك حرّرت المرأة لأنها هي التي سترفع مشعل التقدم بالوطن ، لا تتردّدوا ولا تخافوا أنتم في الطريق الصحيح وعلى كل مكر ستنتصرون لأنكم مخلصون في محبتكم لهذا الوطن ..."
عجّت القاعة بالتصفيق بينما أنا مازلت أبحث عن مصدر الصوت .وأخيرا انتبهت إليه إنّه يقف على الشرفة المطلّة على قاعى المكتبة  ببدلته الأنيقة البيضاء وعصاه الفضيّة .انشرح صدري لمرآه وتساءلت هل كانت تلك عصا حكمته ؟
غادرتُ  القصر خفيفة جذلى بعد أن استعادت تونس مكتبتها وطمأنينتها وبعد أن انقشع عنها الدخان ...خارج القصر كانت الناس ترقص وتغني وتردّد "يحيا الزعيم " رافعين علم تونس . 
تسللت من بين الجماهير الراقصة فعرفت من بين الوجوه الكثير من تلك التي نراه في التلفزيون أو تلك التي أعرفها بحكم عملي ، رأيت بين الجماهير لمجد بلمبروك و اللحبيب المحمدي وفريد عبد القوي ،ابتسمت إليهم وقد استعادوا فرحة الحياة . قصدت البحر .جلست على الرمل  أتطلع إلى الأفق المنفتح على لون ارجواني مشرق لما شدّني أحدهم من كتفي ،التفت وإذا هو العروسي مبتسما وهو يقول :
-        أنا عاتب عليك  أيتها الكاتبة ...لماذا لم تقولي لقرائك أنّ مطلقتي رفيعة انجبت لي ولدا سمّيته يونس وأنّ منال زوجتي أنجبت لي بنتا سميتها تونس ...
ابتسمت في هدوء وقلت له :
-        أنا لست الكاتبة .
دار ليقف أمامي ويتثبّت فيّ ثمّ ضرب على رأسه وقال :
-        آآآآآه عفوا فريدة عزيزتي لقد رأيتك تشبهين الكاتبة ، أم تريديني أن  أناديك باسمك المستعار في الصحافة نور الكاتب  كما تحبين مناداتك .
-        وأنا لست فريدة أختك في الرواية ...

ردّ العروسي في استغراب:

-إذن من تكونين .فأنت تشبهينهما ؟
أجبت بكل فخر :
-        أنا امرأة تونسية .

دخان القصر
دخان القصر

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire